فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري:

{وَاللَّيْلِ إِذَا يغشى (1)}
التفسير:
هذه السورة نزلت باتفاق كثير من المفسرين في أبي بكر وفي أبي سفيان ابن حرب أو أمية بن خلف، إلا أن المعنى على العموم لقوله تعالى: {إن سعيكم لشتى فأنذرتكم} ومفعول {يغشى} محذوف وهو إما الشمس كقوله تعالى: {والليل إذا يغشاها} [الآية: 4] أو النهار أكل شيء يمكن تواريه بالظلام. أقسم سبحانه بالليل والنهار اللذين بتعاقبهما يتم أمر المعاش والراحة مع أنهما آيتان في أنفسهما. ومعنى {تجلى} ظهر بزوال ظلمة الليل وتبين بطلوع الشمس ثم بذاته الذي خلق كل شيء ذي روح لأن الروح إما ذكر أو أنثى، والخنثى المشكل معين في علم الله وإن كان مبهماً في علمنا ولهذا قال الفقهاء: لو حلف بالطلاق أنه لم يلق يومه ذكراً ولا أنثى وقد لقي خنثى مشكلاً حنث.
وقيل: هما آدم وحواء {شتى} جمع شتيت وهو المتفرق المختلف. ثم بين اختلاف الأعمال في ذاتها وفيما يرجع إليها في العاقبة من الثواب والعقاب أو التوفيق والخذلان. عن علي رضي الله عنه أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدنا حوله فقال: «ما منكم نفس منفوسة إلا وقد علم مكانها من الجنة والنار. فقلنا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ {فأمّا من أعطى}» يعني حقوق ما له {واتقى} المحارم {وصدّق} بالخصلة الحسنى وهي الإيمان أو كلمة الشهادة أو بالملة الحسنى أوبالمثوبة {فسنيسره} فسنهيئه للطريق اليسرى. يقال يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها. ومعنى استغنى أنه رغب عما عند الله كأنه مستغن، أو استغنى باللذات العاجلة عن الآجلة. والتحقيق فيه أن الأعمال الفاضلة إذا واظب المكلف عليها حصلت في نفسه ملكة نورانية تسهل عليه سلوك سبيل الخيرات حتى يصير التكليف طبعاً. والتعب راحة والتكليف عادة، ولأن هذه الملكة تحصل بالتدريج فلا جرم أدخل الفاء في {فسنيسره} ومن فسر اليسرى بالجنة فمعنى الاستقبال عنده واضح.
والرذائل بالضد حتى تصير النفس من الكسل بحيث لا تواتي صاحبها إلا في مواجب الكسل وجذب الراحات العاجلة كقوله: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [البقرة: 45] {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} [النساء: 148] ويقرب مما ذكرنا قول القفال: كل ما أدت عاقبته إلى يسر وراحة وأمور محمودة فإن ذلك من اليسرى وذلك وصف كل الطاعات، وكل ما أدّت عاقبته إلى عسر وتعب فهو من العسرى وذلك وصف كل المعاصي، ومن جملة اليسرى الجنة ومن جملة العسرى النار. استدل بعض الأشاعرة بقوله: {فسنيسره للعسرى} على أنه تعالى قد يخلق القبائح في المكلف ويقوي دواعيه على فعلها. والمعتزلة عبروا عن هذا التيسير بالخذلان وعن الأول بمنح الألطاف والتوفيق. ثم وبخ هذا الكافر بقوله: {وما يغني عنه ماله} وهو استفهام في معنى النفي أي لا ينفعه ماله الذي بخل به {إذا تردى} أي مات من الردى وهو الهلاك. ويجوز أن يكون من قولهم (تردى من الجبل) أي تردى من الحفرة في القبر أو في قعر جهنم. استدل المعتزلة بقوله: {إن علينا للهدى} على أنه تعالى أزاح الأعذار وما كلف المكلف إلا ما في سعته وطاقته، وعلى أنه يجب على الله الهداية، وعلى أن العبد لو لم يكن مستقلاً بالإيجاد لما كان في وضع الدلائل فائدة. وأجوبة أهل السنة عن المسائل الثلاث معلومة. ونقل الواحدي عن الفراء وجهاً آخر وهو أن المراد إن علينا للهدى والإضلال فاقتصر كقوله: {سرابيل تقيكم الحر} [النحل: 81] وأكدوا ذلك بما روي عن ابن عباس في رواية عطاء أن معنى الآية أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي. ثم بين بقوله: {وإن لنا للآخرة والأولى} أن لله كل ما في الدنيا والآخرة فلا يضره عصيان العاصين ولا ينفعه طاعة المطيعين، وإنما يعود ضره أو نفعه إليهم. ويمكن أن يراد أن سعادة الدارين تتعلق بمشيئته وإرادته فيعطي الهداية من يشاء ويمنعها من يشاء. والأول أوفق للمعتزلة والثاني للأشاعرة.
ثم ذكر نتيجة المواعظ المذكورة قائلاً {فأنذرتكم ناراً تلظى} يعني إذا عرفتم هذه البيانات الوافية والتقريرات الشافية فقد صح إني أنذرتكم، ويجوز أن يراد بالمضيّ تحقق الوقوع. والمعنى على الاستقبال أي إذا تقررت مراتب النفوس الإنسانية وعرفتم درجاتها ودركاتها فإني أنذرتكم {ناراً تلظى} تتلهب وتتوقد وأصله تتلظى حذف إحدى التاءين. ثم إن كان المراد بـ: {الأشقى} هو أبو سفيان أو أمية وبـ: {الأتقى} هو أبو بكر فلا إشكال وتتناول الآية غيرهما من الأشقياء والأتقياء بالتبعية إذ لا عبرة بخصوص السبب، وإن كان المراد أعم فإن أريد بهم الشقي والتقي فلا إشكال أيضاً، وإن أريد حقيقة أفعل التفضيل فإما أن يراد نار مخصوصة بدلالة التنكير، وإما أن يراد بـ: {الأشقى} الكافر على الإطلاق لأنه أشقى من الفاسق.
وأما الكلام في {الأتقى} فنقول: إنه لا يلزم من تخصيصه بالذكر نفي ما عداه.
قال جار الله: هذا الكلام وارد على سبيل المبالغة فجعل {الأشقى} مختصاً بالصلى كأن النار لم تخلق إلا له، وجعل {الأتقى} مختصاً بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له. وقوله: {يتزكى} أي يطلب أن يكون عند الله زاكياً، أو هو من الزكاة لا محل له لأنه بدل من {يؤتى} والصلة لا محل لها لأنها كبعض الكلمة، أو هو منصوب المحل على الحال.
قال بعض المفسرين: إن بلالاً كان يعذب في الله وهو يقول أحد أحد، فسمع بذلك أبو بكر فحمل رطلاً من ذهب فابتاعه به فقال المشركون: ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده فنزل {وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء} قال أكثر النحويين: هذا الاستثناء منقطع لأن الابتغاء ليس من جنس النعمة.
وقال الفراء: وهو مفعول له من {يؤتى} على المعنى أي لا ينفق ماله إلا ابتغاء رضوان الله لا لمكافأة نعمة {ولسوف يرضى} عن الله أو يرضى الله عنه فيكون راضياً مرضياً. واعلم أن بعض الشيعة زعموا أن السورة نزلت في علي رضي الله عنه لقوله: {يتزكى} لأنه قال في موضع آخر {ويؤتون الزكاة وهم راكعون} [المائدة: 55] وقال بعض أهل السنة: إنها تدل على أفضلية أبي بكر لأنه قال في وصف على وسائر أهل البيت رضي الله عنهم {ويطعمون الطعام} إلى قوله: {إنا نخاف} [الدهر: 8، 10] وذكر في صفة أبي بكر أنه لا ينفق إلا لوجه الله من غير شائبة رغبة أو رهبة، وهذا المقام أعلى وأجل.
وعندي أن أمثال هذه الدلائل لا تصلح لترجيح أكابر الصحابة بعضهم على بعض، وأن نزول هذه السورة في الشخص الفلاني مبني على الرواية فلا سبيل للاستدلال إليه، وإليه المرجع والمآب والله أعلم. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

سورة والليل:
مكية.
وهي إحدى وعشرون آية.
وإحدى وسبعون كلمة.
وثلاثمائة وعشرة أحرف.
{بسم الله} الملك الحق المبين {الرحمن} الذي عمّ رزقه العالمين {الرحيم} الذي خص بجنته المؤمنين.
وقوله تعالى: {والليل}، أي: الذي هو آلة الظلام {إذا يغشى} قسم. وقد مرّ الكلام على ذلك، ولم يذكر تعالى مفعولاً للعلم به، فقيل: يغشى بظلمته كل ما بين السماء والأرض، وقيل: يغشى النهار، وقيل: الأرض، وقيل: الخلائق.
قال قتادة: أوّل ما خلق الله تعالى النور والظلمة ثم ميز بينهما فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلماً، والنور نهاراً مضيئاً مبصراً.
وقوله تعالى: {والنهار}، أي: الذي هو سبب انكشاف الأمور {إذا تجلى}، أي: تكشف وظهر قسم آخر.
قال الرازي: أقسم بالليل الذي يأوي فيه كل حيوان إلى مأواه وتسكن الخلق عن الاضطراب، ويغشاهم النوم الذي جعله الله تعالى راحة لأبدانهم وغذاء لأرواحهم، ثم أقسم بـ: {النهار إذا تجلى}؛ لأن النهار إذا جاء انكشف بضوئه ما كان في الدنيا من الظلمة، وجاء الوقت الذي تتحرّك فيه الناس لمعايشهم وتتحرك الطير من أوكارها والهوامّ من مكانها، فلو كان الدهر كله ليلاً لتعذّر المعاش، ولو كان كله نهاراً لبطلت الراحة، لكن المصلحة في تعاقبهما كما قال تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} (الفرقان). وقال تعالى: {وسخر لكم الليل والنهار} (إبراهيم).
{وما} بمعنى من أي، ومن {خلق الذكر والأنثى}، أي: فيكون قد أقسم بنفسه، أو مصدرية، أي: وخلق الله الذكر والأنثى وجاز إضمار اسم الله تعالى لأنه معلوم لانفراده بالخلق؛ إذ لا خالق سواه والذكر والأنثى آدم وحوّاء عليهما السلام، أو كل ذكر وأنثى من سائر الحيوانات. والخنثى وإن أشكل أمره عندنا فهو عند الله تعالى غير مشكل معلوم بالذكورة أو الأنوثة، فلو حلف بالطلاق أنه لم يلق ذكراً ولا أنثى وقد لقي خنثى مشكلاً كان حانثاً، لأنه في الحقيقة ذكر أو أنثى وإن كان مشكلاً عندنا.
وقيل: كل ذكر وأنثى من الآدميين فقط لاختصاصهم بولاية الله تعالى وطاعته.
وقوله تعالى: {إنّ سعيكم}، أي: عملكم {لشتى} جواب القسم، والمعنى: أنّ أعمالكم لتختلف، فعامل للجنة بالطاعة وعامل للنار بالمعصية، ويجوز أن يكون محذوفاً كما قيل في نظائره المتقدّمة، وشتى: واحده شتيت مثل: مريض ومرضى، وإنما قيل: للمختلف شتى: لتباعد ما بين بعضه وبعضه، أي: إنّ عملكم المتباعد بعضه من بعض {لشتى}؛ لأنّ بعضه ضلال وبعضه هدى، أي: فيكم مؤمن وبر وكافر وفاجر، ومطيع وعاص.
وقيل: {لشتى}، أي: لمختلف الجزاء، فمنكم مثاب بالجنة ومعاقب بالنار.
وقيل: لمختلف الأخلاق فمنكم راحمٌ وقاسٍ وحليمٌ وطائشٌ وجوادٌ وبخيل قال بعض المفسرين: نزلت هذه الآية في أبي بكر وأبي سفيان بن حرب.
وروى أبو مالك الأشعري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»، أي: مهلكها.
وقوله تعالى: {فأمّا من أعطى}، أي: وقع منه إعطاء على ما حدّدناه له وأمرناه به {واتقى}، أي: ووقعت منه التقوى، وهي إيجاد الوقايات من الطاعات واجتناب المعاصي خوفاً من سطواتنا.
{وصدّق بالحسنى} تفصيل مبين لتشتيت المساعي. واختلف في الحسنى فقال ابن عباس:، أي: بلا إله إلا الله.
وقال مجاهد: بالجنة لقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى} (يونس).
وقال زيد بن أسلم: الصلاة والزكاة والصوم.
{فسنيسره}، أي: نهيئه بما لنا من العظمة بوعدٍ لا خلف فيه {لليسرى}، أي: لأسباب الخير والصلاح حتى يسهل فعلها.
وقال زيد بن أسلم: لليسرى، أي: للجنة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نفس منفوسة إلا كتب الله تعالى مدخلها، فقال القوم: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أمّا من كان من أهل السعادة فإنه ميسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فإنه ميسر لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ {فأمّا من أعطى واتقى وصدّق بالحسنى فسنيسره لليسرى}».
{وأمّا من بخل}، أي: أوجد هذه الحقيقة الخبيثة فمنع ما أمر به وندب إليه.
{واستغنى}، أي: طلب الغنى عن الناس وعما وعد به من الثواب، أو وجده بما زعمت له نفسه الخائنة وظنونه الكاذبة فلم يحسن إلى الناس ولا عمل للعقبى.
{وكذب}، أي: أوقع التكذيب لمن يستحق التصديق {بالحسنى}، أي: فأنكرها وكان عامداً مع المحسوسات كالبهائم.
{فسنيسره}، أي: نهيئه {للعسرى}، أي: للخلة المؤدية إلى العسرة والشدة كدخول النار.
وعن ابن عباس قال: نزلت في أمية بن خلف، وعنه {فسنيسره للعسرى}، أي: سأحول بينه وبين الإيمان بالله ورسوله وعنه أيضاً.
{وأمّا من بخل}، أي: بماله {واستغنى} عن ربه {وكذب بالحسنى}، أي: بالخلف الذي وعده الله تعالى في قوله سبحانه: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} (سبأ).
وقال مجاهد: {وكذب بالحسنى}، أي: بالجنة، وعنه بلا إله إلا الله ويجوز في ما في قوله تعالى: {وما يغني عنه ماله} أن تكون نافية، أي: لا يغني عنه ماله شيئاً وأن تكون استفهاماً انكارياً، أي: شيء يغني عنه ماله {إذا تردى} قال أبو صالح: أي إذا سقط في جهنم.
وقيل: هو كناية عن الموت كما قال القائل:
نصيبك مما تجمع الدهر كله ** رداآن تطوى فيهما وحنوط

ولما عرفهم سبحانه أنّ سعيهم شتّى وبين للمحسنين من اليسرى وما للمسيئين من العسرى أخبرهم بأنّ عليه بيان الهدى من الضلال بقوله تعالى: {إنّ علينا}، أي: بما لنا من القدرة والعظمة {للهدى}، أي: للإرشاد إلى الحق بموجب قضائنا، أو بمقتضى حكمتنا فنبين طريق الهدى من طريق الضلال ليمتثل أمرنا بسلوك الأوّل، ونهينا عن ارتكاب الثاني.
وقال الفراء: معناه إن علينا للهدى والإضلال فحذف المعطوف، كقوله تعالى: {سرابيل تقيكم الحرّ} (النحل).
وهو معنى قول ابن عباس: يريد أرشد أوليائي للعمل بطاعتي، وأحول بين أعدائي أن يعملوا بطاعتي، وهو معنى الإضلال.
وقيل: معناه من سلك سبيل الهدى فعلى الله تعالى سبيله كقوله تعالى: {وعلى الله قصد السبيل} (النحل).
{وإنّ لنا للآخرة والأولى}، أي: لنا ما في الدنيا والآخرة فنعطي في الدارين ما نشاء لمن نشاء فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ الطريق.
وعن ابن عباس قال: ثواب الدنيا والآخرة. وهو كقوله تعالى: {من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة} (النساء).
{فأنذرتكم}، أي: حذرتكم وخوّفتكم يا أيها المخالفون للطريق الذي بينته {ناراً تلظى} بحذف إحدى التاءين من الأصل، أي: تتلهب وتتوقد وتتوهج، يقال: تلظت النار تلظياً، ومنه سميت جهنم لظى.
وقرأ البزي في الوصل بتشديد التاء وهو عَسِرٌ لالتقاء الساكنين على غير حدّهما، وهو نظير قوله تعالى: {إذ تلقونه} (النور).
والباقون بغير تشديد.
{لا يصلاها}، أي: لا يقاسى شدّتها على طريق اللزوم والانغماس {إلا الأشقى}، أي: الذي هو في الذروة من الشقاوة وهو الكافر فإنّ الفاسق وإن دخلها لم يلزمها ولذلك سماه أشقى ووصفه بقوله تعالى: {الذي كذب} النبيّ صلى الله عليه وسلم {وتولى}، أي: عن الإيمان، أو كذب الحق وأعرض عن الطاعة أو الأشقى بمعنى الشقي كقوله: لست فيها بأوحد، أي: واحد. والحصر مؤوّل لقوله تعالى: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} (النساء).
فيكون المراد الصليّ المؤبد.
{وسيجنبها}، أي: النار الموصوفة بوعد لا خلف فيه {الأتقى}، أي: الذي اتقى الشرك والمعاصي فإنه لا يدخلها فضلاً أن يدخلها ويصلاها، ومفهوم ذلك على التفسير الأوّل أنّ من أتقى الشرك دون المعصية لا يتجنبها ولا يلزم ذلك صليها ولا يخالف الحصر السابق، أو {الأتقى} بمعنى التقى على وزان ما مرّ.
{الذي يؤتي ماله}، أي: يصرفه في وجوه الخير لقوله تعالى: {يتزكى} فإنه بدل من يؤتى أو حال من فاعله فعلى الأول: لا محل له لأنه داخل في حكم الصلة، والصلة لا محل لها. وعلى الثاني: محله نصب.
قال البغوي: يعني أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه في قول الجميع.
قال ابن الزبير: كان يبتاع الضَعَفَة فيعتقهم، فقال له أبوه: أي بنيّ لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، فقال: منع ظهري أريد، فأنزل الله تعالى: {وسيجنبها الأتقى} إلى آخر السورة. وذكر محمد بن إسحاق قال: كان بلال لبعض بني جمح وهو بلال ابن رباح واسم أمّه حمامة، وكان صادق الإسلام طاهر القلب، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الشمس فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، فيقول: وهو في ذلك أحد أحد.
قال محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه قال: مرّ به أبو بكر يوماً وهم يصنعون به ذلك، وكانت دار أبي بكر في بني جمح، فقال لأمية ألا تتقي الله تعالى في هذا المسكين، قال: أنت أفسدته فأنقذه مما ترى، قال أبو بكر: أفعل عندي غلام أسود أجلد منه، وهو على دينك أعطيكه، قال: قد فعلت فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذه فأعتقه. وكان قد أعتق ست رقاب على الإسلام قبل أن يهاجر وبلال سابعهم، وهم عامر بن هبيرة قوله ابن هبيرة: هكذا في النسخ والذي في حاشية الجمل ابن فهيرة بالفاء والهاء اه شهد بدراً واحدًا، وقتل يوم بئر معونة شهيداً، وأعتق أمّ عميس فأصيب بصرها حين أعتقها فقالت قريش: ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى، فقالت: كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى ولا تنفعان، فرد الله تعالى بصرها وأعتق النهدية وابنتها وكانتا لامرأةٍ لبني عبد الدار، فمرّ بهما وقد بعثتهما سيدتهما يحتطبان لها وهي تقول لهما: والله لا أعتقكما أبداً، فقال أبو بكر: كلا يا أمّ فلان، فقالت: كلا أنت أفسدتهما فأعتقهما، قال: فبكم؟
قالت: بكذا وكذا، قال: قد أخذتهما وهما حرّتان.
ومرّ بجارية من بني المرسل وهي تعذب فابتاعها فأعتقها.
وقال سعيد بن المسيب: بلغني أنّ أمية بن خلف قال له أبو بكر في بلال: أتبيعه؟ قال: نعم أبيعه بقسطاس عبدٍ لأبي بكر صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجوارٍ ومواشٍ وكان مشركاً، حمله أبو بكر على الإسلام على أن يكون ماله له فأبى، فأبغضه أبو بكر فلما قال له أمية: أبيعه بغلامك قسطاس اغتنمه أبو بكر وباعه به.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: «عذب المشركون بلالاً وبلال يقول أحد أحد، فمرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: أحد يعني الله تعالى ينجيك، ثم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: يا أبا بكر إنّ بلالاً يعذب في الله فعرف أبو بكر الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف إلى منزله فأخذ رطلاً من ذهب ومضى به إلى أمية بن خلف، فقال له: أتبيعني بلالاً قال: نعم فاشتراه فأعتقه، فقال: المشركون ما فعل ذلك أبو بكر ببلال إلا ليد كانت لبلال عنده. فأنزل الله تعالى:
{وما لأحد عنده}، أي: أبي بكر {من نعمة تجزى}»
، أي: يد يكافئه عليها.
وقوله تعالى: {إلا ابتغاء} استثناء منقطع، أي: لم يفعل ذلك مجازاة لأحد بيد كانت له عنده لكن فعله ابتغاء {وجه ربه}، أي: المحسن إليه {الأعلى} وطلب رضاه. ويجوز أن يكون متصلاً عن محذوف مثل {لا يؤتى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى} لا لمكافأة نعمة {ولسوف يرضى}، أي: بما يعطى من الثواب في الجنة. وروي عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وأعتق بلالاً» والآية تشمل من فعل مثل فعله فيبعد عن النار ويثاب.
وقرأ حمزة والكسائيّ {يغشى}، {تجلى}، {والأنثى}، {لشتى}، {من أعطى}، {واتقى}، {وصدّق بالحسنى} {واستغنى} {بالحسنى}، {تردى}، {للهدى}، {والأولى}، {تلظى}، {الأشقى}، {وتولى}، {الأتقى}، {يتزكى}، {تجزى}، {الأعلى}، {يرضى} بالإمالة محضة في جميع ذلك، وأمال ورش جميع ذلك بين بين والفتح عنه قليل، وله في من أعطى الفتح وبين اللفظين سواء، وأمال أبو عمرو بين بين إلا {من أعطى} لأنه ليس برأس آية، والباقون بالفتح.
وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي {لليسرى} {للعسرى} بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين والباقون بالفتح، وأمال حمزة والكسائي {يصلاها} محضة ولورش الفتح وبين اللفظين وإذا فتح اللام وإذا أمال رققها، وأمّا {الأشقى} و{الأتقى} فلا يمالان إلا في الوقف دون الوصل. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ سورة والليل أعطاه الله تعالى حتى يرضى وعافاه من العسر ويسر له اليسر» حديث موضوع. اهـ.